مدارس الاندلس - كوستي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مدارس الاندلس - كوستي

اهلا وسهلا بك يا زائر في منتديات مدارس الاندلس
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولالاندلس تيوبتابعنا ع الفيس بوكالهدف المنشود 1319792992491
شمس الاندلس تشرق من جديد

 

 الهدف المنشود

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عصومي
عضو ذهبي
عضو ذهبي
عصومي


عدد المساهمات : 329
تاريخ التسجيل : 19/06/2010
العمر : 28
الموقع : مربع27

الهدف المنشود Empty
مُساهمةموضوع: الهدف المنشود   الهدف المنشود Icon_minitimeالثلاثاء يونيو 22, 2010 11:43 pm

و قبل أن يدخل هشام منزلهم , وقف برهة من الوقت يتأمل منظر المنزل , فإذا به كما تركه فى نهاية الصيف الماضى , و مع بداية أولى نسيمات الخريف , كالميزان القت تماما , مرتفع فى جانبه الشرقي و منخفض فى الجانب الغربي , نتيجة عادية لطبيعة الأرض و تمشيا مع ظروف الفقر التى تحياها الأسرة , و التى لا تمكنها من إضافة لمسات جمالية على ما هو موهوب من الطبيعة , أو استصلاح الموجود ليضفى جمالا و يكون مقبولا أو فى حكم المقبول . لا رونق ولا بهاء, خاصة و أن الجدران التى بنيت بالطين ( الجالوص ) , المتآكلة بفعل الزمن الذى يترك بصماته على كل شيء ... كل شيء بلا استثناء ... أصبحت ملاذ1 آمنا و سكنا و مأوى , تجد فيه الخنافس راحتها و ربما العقارب و الثعابين بين فترة و أخرى متباعدة ! و أخذ يتذكر قول أحمد شوقى :

اختلاف النهار و الليل ينسى = اذكرا لى الصبا و أيام أنسى


تلك السينية الرائعة .... و يكفى أن فيها قوله السائر :


وطنى لو شغلت بالخلد عنه = نازعتنى إليه فى الخلد نفسى



و البعض يضيف واوا قبل لو فيخرج القصيدة عن بحرها الخفيف .



رحم الله الرجل , فقد عارض قصيدة البحتري :

صنت نفسى عما يدنس نفسى = و ترفعت عن جدا كل جبس


و أجاد مثلما أجاد البحتري و أبدع ... وود هشام أن لو توافرت مصادره ساعتها ليستعرض القصيدتين معا , فهما روعة معان , دقة تعبير , حلاوة لفظ , تجد النفس فيهما راحة , و الأذن طربا و غناء , رسما حقيقيا بالألفاظ لا إدعاء فيه و لا افتراء:

تحسب العين أنهم جد أحيا = ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلى فيهم ارتيابي حتـى = تتقراهمو يـــداي بلمــس


و رحم الله الرجلين الشاعرين الكبيرين .



و التفت هشام إلى الجانب الغربي , ليرد تحية أحد أقاربه من أهل قريته الطيبين , ليكون أول من يلتقي به , بعد رحلة طويلة , و تذكر هشام كيف أن هذا الرجل ظل مشهورا بذكائه الخارق و قوة الملاحظة .



و دخل هشام الدار ليسلم بعاطفة جياشة على والدته , فقد كان يؤمن أنها نموذج فريد للأم المكافحة المناضلة من أجل أبنائها , فى تضحية و نكران ذات , خصوصا بعد وفاة و الدهم عن عمر كبير , و كان قد تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى و بعد أن زوج بناته الستة منها , ليعيش عشرين عاما أخرى مع زوجته الجديدة , و ينجب منها ثلاثة أولاد و بنتا , و كان هشام توأما للبنت و أوسط إخوانه , مدللا عند والده حيث سمي باسم جده من أبيه , و مدللا عند والدته التى كانت تعتقد أن التوأم ضيق الصدر , و باختصار نصف روح ! و يستحق معاملة خاصة . و سلم على أخته الكبرى من والدته التى كانت متزوجة من ابن عم لها وولدت معه بنتين ثم رملها, و هي رغم ذلك عندما تزوجها والده كانت فى عمر ابنته الثالثة ! ثم حيا بحرارة توأمته , و إن كانت تبدو عليه ملامح حزن عميق فى داخله يترك انطباعا على سحنته الشاحبة أصلا , و بدأت تلاحقه الأسئلة عن أخبار أخويه الأكبر و يسكن الخرطوم و الأصغر و يعمل بمدينة ودمدنى بالجزيرة بوسط السودان , و هي تشتهر عالميا بزراعة القطن طويل التيلة , و رأى أن الأسئلة لن تقف عند حد و ستجر وراءها من الحكاوى و القصص الكثير , و ستتعرض لنتيجة امتحانه و تخرجه ليكون معلما بالمرحلة الثانوية , و كيف أن ذلك مسئولية و شرف و ما إلى ذلك من تعليقات و هلم جرجرة من كلام يجر إلى كلام فى تفصيلات و إجمالات ربما حركت مزيدا من الحلقات المتصلة , و شبيهاتها و ما هن على شاكلتها . و كان هشام متعب فكر و بدن معا !



و أدرك الشاب الشيخ , فقد كان فى الثالثة و العشرين من العمر و بضعة أشهر, صقلته التجارب و الحياة و الهموم , فأصبح يبدو فى جد الشيوخ و تفكيرهم , أن الجلسة مستمرة و يمكن أن تكون طويلة جدا , فطلب أن تؤجل الأسئلة لحين أن يلقى عن جسده مظاهر السفر , و دخل إلى الحجرة الغربية المجاورة للصالة التى كان يجلس بها , و الحجرة و الصالة كل ما يحتوى المنزل من أماكن للإقامة صيفا و شتاء , و لكن العبء الأكبر يقع على الصالة نسبيا , و هي مكان تتساوى فيه إقامة الليل و النهار و الصيف و الشتاء , و يتشابه بنيان المنزل و مأواه مع فنائه , فسيان أن تقضى ليلة ممطرة تحت سقف الحجرة أو الصالة أو فى فناء البيت ! فلا شيء منها يحجب عنك المطر و ضوء البرق و إرزام الرعد , و لا شيء من هذا أو ذاك يحجب عنك برودة الشتاء القارصة , تتساوى تماما كل الظروف ! و للقارئ أن يطلق العنان لخياله الخصب و يرسم بريشة الفنان ما أسعفته الذاكرة عن البيت و بنيانه ! دخل إلى الحجرة الوحيدة , ليجد فاثورا يرقد فى صحنها , ووعاء بلاستيكيا ( سطلا ) مملوءا بالماء ليستحم .





و صفـصـف الشاب شعره و رجّلـه بمساعدة مرآة صغيرة , طبع عليها آلاف الأفكار و الخواطر , بنظرة حزينة و قلب مشغول , سحنة تعبر جيدا و فى صدق عما بنفسه من بؤس , لا حد له و لا حدود , عاش البؤس و ترعرع فيه و شب عليه , و حدق بالمرآة طويلا , و أحس و كأنه ذلك السيف المكسور , أو الفارس الذى صرعته أوهامه على الرغم منه , و هل الأوهام إلا هزيمة لا مدى لها و لا شاطئ ؟


نعد المشرفية و العوالى = و تقتلنا الهموم بلا قتال





و كان يظن أنه أولى الناس بالعز و الفوز بالحياة , فهو يحمل بين جنبيه قلب حر كريم , و هو سليـل علية القوم و خيارهم , و هو يظن أنه ينطبق عليه بيت أبى الطيب المتنبى :

فارم بى ما أردت منى فإنى = أســـد القــلب آدمي الرواء
و فؤادى من الملوك و إن كا = ن لسانى يرى من الشعراء


و على الرغم منه أن يستشهد بأبيات أبى الطيب المتنبى , و لـه فى ذلك رأي و رؤية , يأمل فى سردها فى باب من أبواب هذا الكتاب لاحقا , فى جرأة و على الرغم من معرفته بأن المتنبى جاء فملأ الدنيا و شغل الناس , و على الرغم من أن أي حديث يقدح فى المتنبى , سيعتبر من قبل الكثيرين ضربا من الجنون أو الهراء! لا يهم , فلا حجر على الفكر و الرأي فى أخريات القرن العشرين , بل يجب أن يكون الأمر كذلك , طالما كان الرأي يأتى منضبطا و فى إطار المنطق و العقلانية.و بدا و كأن هما ثقيلا يزحم صدره و فكره , ليـته يستطيع أن يجلس و أن يكتب و أن يعبر عما يجيش بخاطره , فى حرية و صدق , بلا تكلف و لا مراء , و لا ارتداء ثوب ينكره و يكون غريبا عليه , قصيرا أو طويلا , و هل يملك من حيلة غير الكتابة ؟ فهي مخرجه الوحيد من أتعاب نفسه و هي تعبير ينفس عن الذات و هموم الجوانح , بل الشعر سلاح مضاء و فيه راحة و شفاء , يعبر بصدق عن الأغوار و الأعماق , و لكنه لا يستطيع .. أجل لا يستطيع .. فهو ما زال غائر الجروح , و ما زال الجرح نازفا ... و العواطف الجياشة لم تهدأ بعد ... لا يستطيع لسبب بسيط يتمثل فى أن كل ما يستطيع كتابته من شعر و مهما بلغت قيمته الفنية و البلاغية و الأدبية ـ إن كان حقا موهوبا كما يقال عنه ـ و مهما استبد به دون سواه فن الخلق و الإبداع , لا يمكن أن يترجم ما بداخله ترجمة دقيقة , و لا تقل له إن لغة المترادفات غنية معبأة قادرة , فإن ذلك قول ممجوج , و سخف علماء اللغة الذين لم يكتبوا الشعر الحقيقى و إنما قدموا صناعة سخيفة لا أكثر و لا أقل , فهم لم يجربوا ترجمة حقيقية للمشاعر فى ذروتها , و أهم ما فى كل الشعر عاطفته الصادقة و روحه و حيويته , و هم إن كتبوا شيئا , فقد عكسوا لنا تكلفهم و عنتهم و ثقل أرواحهم و لم يقدموا لنا إلا سيئا لا يمكن أن يقال إنه شعر ! ياله من شاعر مغلوب على أمره , و هل فعلا هو شاعر يستطيع أن يكتب شيئا نافعا ؟ أم تراه كغيره ممن كتبوا و مضوا بلا ذكر و لا خلود ! و لكنه يدمى الأكف تصفيقا و استحسانا لما يكتب من شعر حماسي رائع , ينتزع به الإعجاب حتى من أصدقائه و خصومه على السواء :
و كنت إذا وقفت على مقام = تحير منه ذو الحقد اللدود


أو ليس هو القائل ذلك ؟ يصور مشاعر الناس و آلامهم و يمس فيهم مواطن الرغبة ثم لا يستطيع أن يحكى آلام نفسه ؟ عجيب ! إذن لـم يكتب الشعر و ليس لـه فيه غناء؟ فليذهب شيطان الشعر الذى يمده بالمنبريات إلى الجحيم ! فهو ما زال يذكر عجزه يوم ذلك الحادث المروع , و الذى فقد فيه أعز الناس إلى قلبه آنذاك . أعز و أغلى الناس , على يدي سفاح معتوه , طغت عليه العقدة النفسية , فأعمل السكاكين و الآلات الحديدية القاتلة , ليدفن أجساد ست أرواح تحت التراب فى لحظات ! بلغ حزن هشام قمته و لكنه لم يستطع ترجمة مشاعره إلى حروف حزينة يحترق تحتها القرطاس ! و ما أكثر من حزن عليهم هشام , ووقف لذكراهم موقف العي العاجز !



و استطرد هشام فى تفكيره و خواطره على هذا الضرب المتسلسل المزعج مدة من الوقت , عاد بعدها يسائل نفسه إن كان قد استلقى على السرير المصنوع من الأخشاب الرخيصة , و نسج بحبل من حشيش صحراوي يعرف ( بالحلفة ) , و يسمى مثل هذا السرير العنجريب , و هو ما يستعمل فى الغالب نعشا للموتى و من حولهم من يحملونهم به إلى مثواهم الأخير , و تعوذ بالله من تلك الشطحة الذهنية المتشائمة و مضى يسأل نفسه فى جوف الظلام ـ لم تكن هناك كهرباء ـ: أترى يريد النوم أم استلقى ليفكر فى الأدب و الشعر و النقد ؟ أم ليجد مخرجا و بصيص أمل من قصته الجديدة التى عاشها فى صمت و كتمان منفردا , و أراد أن يسدل عليها ستار الختام قبل أن تبدأ حقيقة على أرض المعايشة و الواقع , ليخرج صفر اليدين , فحظه دائما يلازمه بالخسارة و لم يربح مرة واحدة , فعلام يربح هذه المرة, فلتكن كسابقاتها , تثقل جانبه بالحسرة و الندم و الأرق يعض أصابع الفشل فى أرق و قلق و ضيق صدر !



و لماذا يتدخل الأدب كالفضولي فى مجالس القوم , ويحتل عندها جزءامن تفكيره وليله الممض , كما يشغل الفضولي جزءا ليس بالقليل من أوقات الناس ؟لماذا يخرجنى الأدب من موضوع أحيا لبه تفكيرا و تقليبا و بحثا و تقديرا , فربما ربما أجد طريقة للكسب و لو مرة واحدة ! ألا قاتل الله المتافيزيقية الخادعة و الواقعية المرة معا , و من سار على درب المتافيزيقية ! أو هكذا يخرج الإنسان هروبا من واقعه , جريا وراء خيال و سراب , عله أن يجد راحة و عزاء و لو فى عالم الخيال ؟ أو نجرى وراء الخيال تخليا عن الحقيقة و الواقع المرير ؟ ولكنه مسكين , أعنى الإنسان , ضعيف و إلا كيف يمكن أن يعيش و أن يستلهم الأمل فى أحلك الأوقات لو لا ذلك ؟ فالأمل الأخضر البسام و أحلام اليقظة , و النظر إلى الغد المقبل ـ مهما كانت الظروف ـ زادنا بعين متفائلة , أمور تهون علينا آلامنا و تطرد يأس صدورنا , و كم فعلت بنا الأحرف الأنيقة ! و لكن بالرغم من ذلك كله , تبقى الحقيقة المجردة , حجر عثرة نصطدم به , و نواجه ـ رضينا أم أبينا ـ واقعنا , مبنيا على عدد من الحقائق التى نتحاشى مجرد ذكرها دون أن نكون قد وطدنا العزم و النفس على مجابهتها , و أنى لنا ذلك و كيف رد ما يصيبنا من ضرر , ردا فعالا أم غير فعال ؟ أما أن نبنى صروحا من الخيال وقصورا على رمال أوأرض هشة بلا أساس متين , فتهوى بين لحظة و أخرى , فأمر جد خطير , تترتب عليه العواقب الوخيمة المتخمة البطون , التى ما تلبث أن تنغص على المرء صفو حياته .



و بدأ الشاب يتذكر ...... فقد كتب موضوعا فى هذا المعنى و السياق , بجريدة الرأي العام السودانية فى صفحتها الثانية ( صور و ألوان ) بالعدد 7798 بتاريخ 17/2/1967 بالتحديد , و يذكر ذلك العنوان ( الفلسفة و الأدب ) , و يتذكر كل كلمة من كلمات الموضوعه , فقد كتب :

و ما الجمع بين الماء و النار فى يدى = بأصعب من أن أجمع الجد و الفهما


أعاد الله إلينا شاعرنا (جماع) فقد جمع بين الواقع و الخيال فأجاد أيما إجادة , و جزاه الله خيرا فى موضوع مقدمة لحظاته الباقية الخالدة :

و نظرت فى عي(محجوب) آ = فاقا و أسرارا و معنى

أنت السماء بدت لنـا = و استعصمت بالبعد عنا





فلا أشك إطلاقا فى أن فلاسفة المدارس التجريبية , أو قل المنطقية الموضوعية , قد دخلوا فى محاولة انطلاقة العقل البشري فى ميادين المعرفة , و لكنى أعتقد أيضا أن محاولاتهم و إن نجحت إلى حدما , إلا أنها لن يكتب لها النجاح كله , و لن تستطيع أن تحرم العقل البشري من ارتياد ميادين فساح و التحليق فى عوالم يمتزج فيها الواقع بالخيال , فهم يريدون منا أن تؤدى كل كلمة نتحدث بها أو نكتبها معناها الدقيق و الدقيق فقط , على أن تخضع لميزان التجربة العلمية و العملية , بينما نجد من جانب آخر المتافيزيقيين الذين يرون غير ذلك , فيعطون للأقلام الحرية لتحلق فى سماء الخيال و تكتب من الصور و الألوان و تبتكر من الزخرف اللفظي ما يمكن أن ترتاح إليه النفس أو تتصوره العقول على أقل تقدير , غير خاضع لتجربة و لا حقيقة علمية .

و أول ما يجعلنا نتساءل فى خضم هذا الجدل , هو الإنسان و قد خلق لأول مرة و أوجد لأول مرة , جديدا على الحياة و الكون , لم يعش على الأرض من قبل , و لم تكن له خبرة و لا تجربة , فماذا كان من شأنه يومذاك ؟ فكلنا يعلم أنه استطاع دون تلك التجربة أن يسبر غور حياته , و أن يستوعبها أيما استيعاب , إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من تقدم و فن و حضارة . و هل كانت المخترعات و الحقائق العلمية و الاكتشافات إلا نتيجة لخيال خصب مبتكر خلاق فى البداية ؟



و شيء آخر لابد من ذكره هنا , و هو بكاء الإنسان طفلا ساعة مولده , بفطرة غريزية أودعها الله فيه , لمعرفته بمغادرة مكان كان يجد فيه أمنه و استقراره , و تخوفه من مجهول ينتظره فى عالم جديد لا يعلم عنه شيئا حتى الآن , و ذلك سبب يستند إليه البعض فى تقريب الموت و انتقال الروح من الجسم الطيني إلـى عالم برزخي , أمر مخيف للإنسان رغم أن الحياة القادمة بعد الموت أفضل بكثير عن الحياة الدنيا و سجن الروح فى جسم طيني , تماما مثل خوفنا عند الولادة و بكائنا , و آخرون يعتقدون أن البكاء أنما يأتى للأذى الذى يلحق رئة الوليد و هو يتنفس لأول مرة , و أيا كان معه الصواب أو الخطأ, فإن البكاء من أولى معارف الإنسان, و قد ذهب بعض العلماء إلى أن الطفل ما كان لـه أن يبكي لو لم يكن يعرف نقيضه , أو يكون مدركا للضد . أي البكاء , فهو إذن يعرف بالفطرة الفرح و الضحك , طالما عبر عن الحزن أو الضيق أو الخوف الأَوْلي , فالطفل على هذا ذو خيال جامح بعيد لا حد له و لا حصر , و ما ذلك إلا من معرفة أو محاولة معرفة.





ثم هؤلاء الفلاسفة الذين يريدون إخضاعنا للتجربة و الحقيقة العلمية المجردة الواضحة , لا أعتقد فى إيمانهم المبدئي بالمثل العليا و القيم الأخلاقية , فهم بذلك خطر عظيم على الدين و المعتقدات و الأخلاق , لا الأدب وحده , فى حين أن الإنسان قد جبل بطبعه و خلق ميالا إلى الفضيلة لا الانفلات الحيواني .



و ما أثقل الواقع و ما أمر وطأته على النفس ! كلنا يدرك ذلك و كلنا خير له أن يقرأ كتابا لقصة من نسيج الخيال المحكم يقع فى خمسمائة صفحة , على أن يستوعب بعض الصفحات العلمية المحدودة و المعدودة على أصابع اليد الواحدة , فنحن لا نميل إلى العلوم إلا مجبرين , شديدي الاشمئزاز و التقزز , و من منا لا يلهب كفيه تصفيقا و تلعب الموسيقى برأسه ؟ بل من من الناس من لا يحلم بالغد المشرق و المستقبل السعيد متناسيا لواقعه أو محاولا الهروب منه ؟ و إذا حاولنا ألا نسوق أحلام اليقظة دليلا نقف به على عمق الخيال و ما يجرى فى مجال الفطرة و النفس البشرية , معللين ذلك بإمكانية التحكم على العقل و النفس , و قتل الفراغ فيما يفيد , فلا أعتقد أننا يمكن أن نكبح جماح أحلامنا و نحن نيام يشخرون و يغطون فى نوم خفيف أو عميق ! و الرقص و الغناء و الميل إليهما و الموسيقى و الشعر و المناجاة و غيرها , مما لم يكن له أثر فى حياة الفيلسوف داروين فى سنين محددة من عمره كما قال : قضيت الستين سنة الأولى من عمرى تعسا نكدا غير سعيد , و أنا أشتغل بالتجارب العلمية , و ذلك لأنى لم أهب الفن شيئا من وقتى خلال تلك الأعوام .



و الرأي عندى هو ألا يستغنى الإنسان عن الواقع جريا و هرولة وراء الخيال , و لا يستغنى عن الخيال معايشة صرفة للواقع , فلابد أن يجمع بين الاثنين معا و فى إناء واحد . و ما أروع شاعر المعرة الفيلسوف الذى جد فى أمره حتى لتظنه لا يعرف سوى الحزم و المنطق :


و كيف صعودى إلى الثريا بلا سلم ؟



و هو نفسه القائل قبل أو بعد :


أيها الغر إن خصصت بعقل = فاسألنه فكل عقل نبى





فكر كثيرا فى أن يصل إلى السماء , و أن يستقصى حكمة الله فى كثير من الأمور , فاستحالت عليه المحاولة , أو لم يجد من عقله ما يسعفه على ذلك . و لكنه جنح أيضا إلى الخيال و التلاعب بالألفاظ و العبارات و المعانى بجناس كامل أو ناقص , حتى قال عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ـ نفعنا الله بعلمه وأ طال بقاءه ـ واصفا له فى أحد مواقفه فى الفصول و الغايات , فيما كتب العميد فى كتابه مع أبى العلاء المعرى فى سجنه , يا لعبث الأطفال الكبار ! ( و يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه , و يسمع الأصوات بيده , و تكون بنانه مجرى دمعه , و يجد الطعم بأذنه , و يشم الروائح بمنكبيه ...!) إلى آخر ما كتب منكرا العلة الغائية , مجاريا مذهب آيبقور , إلا أنه قدم لنا وصفا بخياله المبدع , لصورة مختلفة عن الواقع على كل حال و يقدر ربنا أن يجعل الإنسان عليها .



و يرى أبو العلاء أن النفس تخدعه و تغريه ، و لكنه يثبت وجودها مؤكدا أن مجالها أرحب من هذا الجسد الذى يحويها :


أرانى فى الثلاثة من سجونى = فلا تسأل عـن الخـبر النـبيـث

لفقدى ناظرى و لزوم بيتـى = و كون النفس فى الجسم الخبيث


و بعد ... فهذه مجرد خواطر عرضت أردت تسجيلها ، و إن كانت تسوقنا إلى خواطر أخرى أرجأتها إلى فرصة مواتية إن شاء الله .



و يبدو أن الله لم يشأ ، أو أن الشاب لم يحاول الاستمرار فى كتابة خواطره ، وربما كان وعده مجرد كلام جرائد فقط. قال ذلك الشاب فى نفسه بعد أن استعرض فى ذاكرته مفردات و عبارات و أفكار مقاله ، و تنفس و هو ملقى على ظهره طويلا ، حتى ليخيل إليه أنه كان يزفر بصورة ربما تلفت إليه انتباه أختيه و أمه بالصالة المجاورة , و على الرغم منه و بقدر لا يدريه ، مما جعله ينتبه إلى نفسه قليلا ، غير أن انشغال أفكاره كان أكبر كثيرا من يقظته ، فأخذ يتابعها باهتمام بالغ و انسجام تام ، لو لا أن أتاه صوت والدته تدعوه للعشاء حيث نهض متثاقلا يجرجر رجليه. و جلس إلى صحاف الأكل بلب شارد تماما ، فقد كان يلوم نفسه على ما أضاعه من زمان فى تفكير سفسطائي لا يقدم شيئا و لا يؤخر قدرا، و أحس بالضجر ، فلعن فى نفسه بروتاقوراس ألف مرة ، و لعل مصدر ذلك كله قول على قول كما يقولون ، أفلم يعرف منطقه بالسفسطائية؟ أو لم يكن زعيما للسفسطائيين الذين زعموا أن الإنسان مقياس الأشياء و الله أعلم بما تنطوى عليه العبــارة Man is the measure of things

و قطعت تفكيره و صمته العجيب توأمته عندما رفعت إليه بقطعة لحم من صدر دجاج أحسنت تربيته بالدار , تنتظر به الأم عودة وليدها الغائب طويلا للدراسة ، لتضع حدا لعمر ذلك الديك أو تلك البطة ، برا بابنها ، و قالت التوأمة :

- إيه مالك لا تأكل ، ما عاجبك الخبز البلدى ؟



ـ ابتسم هشام إليها مجاملا ، و قال بصوت حاول أن يحجب عنه الضجر – فلم يكن همه الأكل فى المقام الأول و لا حتى العاشر – و بألفاظ حاول جاهدا فيها ألا يظهر أثرا لغثيانه الفكري :



- أكلت أكثر منك و شدى حيلك و حصلى .



و انتهى كل من أكله ، بعد أن أخذ هشام جزءا يكفى حاجة معدته ، و هم هشام بالذهاب إلى الحجرة المجاورة اليتيمة ، لولا أن سمع صوت مذيع الإرسال الإذاعى بأم درمان ، يعلن أن ساعة الاستوديو تعلن عن تمام التاسعة مساء بتوقيت السودان المحلى ، و هو موعد المستمع بفاصل غنائى تشارك فيه إحدى المطربات بأغنية أثيرة لديه ، فما كان منه إلا أن جلس إلى جهاز الراديو ليستمع إليها ، خصوصا و أن الأغنية بالإضافة إلى حلاوة معانيها ، لشاعر زامله فى فترة الدراسة الثانوية ، و انساب صوت المجموعة ( الكورال ) يتلوه صوت المطربة :

عز علي وصالك = و زادت بي شجونى
ياما اشتقت ليكا = و ياما بكت عيونى


و انتهت الأغنية مخلفـة صاحبنا فى ذروة مشاعـره و انفعالاته العاطفية ، فحمل الراديو معه و دخل به الحجرة يحرك المؤشر هنا و هناك عسى أن يلتقى بصوت سيدة الغناء العربي أم كلثوم ، فقد كان فى حاجة ملحة حقيقية إلى الاستماع إليها ، و الاستمتاع بما تلقيه حنجرتها الذهبية النادرة الفريدة المعجزة ، كان من أشد الناس إعجابا بها و بذوقها المتميز فى اختيار قصائدها و معانيها و مفرداتها ، و له فيها قصيدة شعر مدحا ، من انتاج يافع على أول الطريق ، شعر ناشئة لم يعد معجبا به ، بل و أعدمه و لم يعد يذكر منه إلا بعض النتف ، و بعضها يأخذه عن زملائه الذين كانوا يحفظون ما يروق لهم ، فلا يذكر من قصيدته فيها إلا هذه الخطرفات :

تعيد لنـا الحب فــــى فـورة = تـرد الحيـاة إلـى مدنـف
بصوت دفىء أعاد الشجون = و حـرك فيـنا كل خفــى
أعـــــاد إلـي ربيـع الشبـاب = و طوقنــى بالحنان الدفى
و من عرف الحب أشجانه = يلـوذ بصوتك كي يشتـفى
أعيش لفــنـك فـى نشــــوة = و منـه لعمـري لا أكتـفى


و قد كان يذكرها فى كل مجلس لـه ، بأبيات أستاذه و زميله الشاعر الكبير محمد عبد القادر كرف التى أنشأها فى فقيدة الفن أسمهان ، و كان يرى أن أم كلثوم أولى بهذه المعانى الراقية :


قد غنت الشعر حتى انبرت = لها من هوى النفس أعلاقها

و تـنبـئنا أن فـــى صدرها = مـواكـب تـرزم أبــواقـــــها
دنـيـا مـن اللحن مـــــبثـوثة = كمــــــا خبـأ الخمـر عتاقـها


و قد بدأت صلة هشام بها عندما استمع إليها مصادفة ، فهام بها و بالأطلال للدكتور إبراهيم ناجى ، ذلك الشاعر الرقيق القدير القائل :

يا حبيبى كل شيء بقضاء = ما بأيدينـا خلقنـا تعسـاء
ربمــــــا تجمعنا أقـــدارنا = ذات يوم بعدما عز اللقاء
فـــإذا أنـكـــــر خـل خلــه = و تلاقينا لقــاء الغربــاء
و مضى كل إلى غاــيتـه = لا تقل شئنا فإن الحظ شاء


و رغم انتقاد البعض للفظ الحظ هنا و اعتقادهم بأن الله شاء أفضل ، إلا أن ذلك لا ينقص من القصيدة شيئا ، بل إن الحظ أيضا قضاء و قدر من الله ما لم تصنعه تصرفات الفرد المعتدلة أو الطائشة ، فقد منحنا الله من العقل ما نسير به كثيرا من أمورنا و نصنع به أهدافنا و حياتنا .



و للعجب ، فقد التقى هشام فعلا بمن أحب فى طريق عام بمدينة عطبرة بلد الحديد و النار كما يقولون لوجود رئاسة السكة حديد بها ، و رغم أنها زميلته فى الدراسة ، إلا أن كليهما مضى فى حال سبيله و حتى من دون سلام . لقاء غرباء تماما !



و ظل يعجب كثيرا بإبراهيم ناجى الشاعر ، و يرى فيه نفسا ذات شفافية و نقـاء و طهر لا يتوافر فى غيره من الشعراء ، و للناس فيما يعشقون مذاهب :

تغنـى و تسكـب آمـاقــــها = و تلهو و تنحب أعماقها

و كا لغيمة استنزفت ماءها = و ما زال يضحك إبراقها

و لـيـس بمبـق عـلـى نفـسه = وإن حذر المرء إشفاقها


أسيت أسى لـك مـن أعينى = مدامع لـم يشف إطلاقها
فـفى ذمــة الله ألحانـــها = وفى كنف الخلـد أشواقها

ولا زال يضحك فى قبرها = ملـث الغمائـم غيـداقـها




عسى أن يكون ذلك رثاء متأخرا و أسى على فقد تلك الروح الشاعرة الرقيقة للدكتور ناجى .



و هذا حال هشام ، يأسى لكل من قابله فى الحياة ، جسدا كان أم روحا أو حتى روحا تبرز فى شعر جميل ! و يخيل للمرء أن هشام نسيج وحده ألفة ووفاء ، الوفاء و الصدق لكل شيء لـه فيـه مصلحة أو تنعدم فيه مصلحته الشخصية ، الوفاء فى زمن يعدم فيه الوفاء شنقا حتى الموت أو رميا بالرصاص ، فما زال يبكى حافظا و شوقيا و يحيا آلام البارودى إذ يقول :

أصبحت لا أستطيع الثوب أسحبه = و كان طوع بنـانـى كل عسـال
و لا تكاد يدى تجرى شبا قلمـى = و قد أكون و ضافى الدرع سربالى


بل و فيم العجب ؟ أو ليس يحيا مأساة امرئ القيس فى ضعفه الإنسانى ، و يقدر مشاعره رغم ما يأخذه عليه من مآخذ ، و هو يسمعه يقول :

إذا ما لم تكن إبـل فمعـزى = كأن قــرون جـلتـها العصي
فتملـؤ بيتنا إقطا و سـمـنا = و حسبك من غنى شبع و ري


تملأ هزيمة امرئ القيس و انكساره كل نفس هشام ، و هو يردد هذه الأبيات ، فى حس مرهف بكل من حوله . تكبر لدى شفافية نفسه النقية كل صغيرة . تهزه الكلمة التى تفعل بأحاسيسه فعل السحر ، و تسرى سريان الخمر فى كل مفصل .



جلس داخل الحجرة يستمع فى الظلام إلى كوكب الشرق فى إذاعة الشرق الأوسط:

و انتبهنا بعد ما زال الرحيق = و أفقـنا ليت أنـا لا نفيـــق
لحظة طاحت بأحلام الكرى = و تولى الليل و الليل صديق


و إذا النـــــور مشــــع طالــع = و إذا الفجر مطل كالحريق

و إذا الـدنـــيـا كمـــا نعرفـهـا = و إذا الأحباب كل فى طريق


أيـهـا النـائــم تـغــفـــو = تذكــر العهـد و تصحو
و إذا مـا التـــام جـرح = جـد بالتـذكـار جـرح


- يا أخى ليه بسى كده ؟



هكذا قال هشام للمذيع الذى تدخل ليعلن عن فقرة أخرى ، و كأن المذيع كان يمكن أن يسمعه و أن يستجيب لـه ، فلا ينهى الأغنية عند هذا الحد ، و كان هشام طبعا يود أن لـو بثت الأغنـية بكاملها . مسكـين ذلك المذيع ، يصب الناس عليه جام غضبهم و سخطهم و هو منفذ لبرنامج ، لا حيلة لـه و لا يد فى تحقيق كل أمانيهم و رغباتهم و ميولهم ، ننسى فى كل لحظة أنه ملتزم بوقت حُدد لـه و برنامج معد مسبقا لدقائق محسوبة .



ليت أنا لا نفيــــق ... أجل.. و أغلق هشام الجهاز ، أو قل قطع عنه التيار الكهربائى الواصل من بطاريات جافـة صغيرة ، و صمت صمت أهل من فى القبور، و بدا مجاريا خياله ثانية ، مادا حبال أفكاره و أحلامه ، بعينين معلقتين بسقف الحجرة ، الذى لا يرى نسيجه من جريد النخيل ، فإذا تعب من رقدته على ظهره ، قلب جسده نحو ذاك الحائط أو هذا ، فى إدراك منه و ربما فى غير إدراك، فقد كانت الحجرة شبه مظلمة ، فى ركن منها يضيء مصباح مبهوت الضوء, يعطى إنارة خافتة ضئيلة ، لا يتبين بها المرء تفاصيل الحجرة و سقفها و أثاثها المتواضع البدائى ، تواضع السابقين فى العصور الأولى ، فهي على كل حال تعتبر مظلمة . فهشام يحلق بعينيه فى مرق الدوم الذى يتحمل ثقل سقف الحجرة كله ، غير راء لـه وإنما متخيلا لـه بعلم سابق به ، كالأبله الشارد الفكر و النظر و تتداخل فى رأسه و تتشابك الأفكار و الآراء , فيسعـد حينا و يضجر حينا آخر ، بجسم يتقلـب على الفراش ، فى ضيق و حدة و خشونة ، تتساوى مع خشونة فراشه, و يعود ثانية ليأخذ وضعه السابق من جديد ، حتى ليخيل إلى الرائى أنـه قندول الذرة الشامى يعالجـه الشاوى على موقد الفحـم الملتهب بجوارجامع أمدرمان الكبير ، وعلى وجه التحديد فى الناحية الشرقية ، فى ميدان صغير مزدحم بالسوقى فى أعمال مختلفة بسيطة هامشية فى الغالب .



- آه ... ذكرى ... يا ليتنا عدنا أو عادت الأيام .



قال هشام فى نفسه , فقد كان يذهب و زميله عبد الماجد فى الشهور الأخيرة من أيام الدراسة , إلى ذلك الميدان لشراء قناديل الذرة الشامي , فكلاهما يحب أكله , و كلاهما يبحث عن شيء من التغيير يخرجه من جو المذاكرة والمادة العلمية البحتة , خصوصا أن هشام كان متخصصا فى الرياضيات البحتـة و التطبيقيـة و طرق تدريسها . و فى تلك الأيام كان يسعـد هشام برؤية حبيبته و لو على بعد , فشيء خير من لا شيء , و ما كان يتصور أن الأيام ستمضى على عجل , و ستوجف فى سرعة مذهلة و ينقطع حبل اللقاء من بعد .



و أغمض هشام عينيه , و بدأ يداعب شريط ذكرياته القريبة , قبل ثلاثة أيام فقط, حينما استغل عربة اللاندروفر و غادر أم درمان حزينا مكتئبا على غير العادة , قاصدا الشمال الأخضر ‍! ذلك كان الفراق النهائي بينه و بين من أحب و لم يأنس فى نفسه الثقة الكافية أو الكفاءة ليصرح بحبـه , فرغــم أنه كان ذاك الشاعر المرموق بين زملائه , و رغم أنه خرج من دنيـا الفقر نسبيا , إلا أنه ما زال يعيش رهين الفقر السابق و الأوضاع الحياتية المتعبة . كان رفقاؤه فى العربة فى واد و هو فى واد آخر , و إن كان يجاذبهم الحديث أحيانا , فى الأدب و الشعر و الفن و الفلسفة و الدين والمذاهب , فقد كان بصحبة رجل على قدر من العلم والثقافة لا بأس بهما , و كان من بيت ديني كبير و معروف و جاه عريض , وكانت عربة اللاندروفر له , و أخذ هشام يتذكر كيف ضل أخوه الأصغر الطريق , و كان يسوق العربة , و ذلك بعد مسيرة أربع ساعات من أم درمان . و بدأ يعود بخياله....... أخذنا نلف و ندور بالعربة فى محاولات يائسة للعودة إلى الطريق العام , و لكن دون جدوى , فالطرق متشابهة تتعدد بها السبل و تلتقى و تفـترق الفجاج الرمليـة طبعا , فلا تعتقد أن الطريق كان من قار , غير أننا أبصرنا نورا باهتا من بعيد أخيرا , و اتجهنا إليه لنجد بيتا من عشب جاف , نوع من القش العشوائى الجاف , يسكنه بعض العرب البدو الرحل فى الغالب , من عرب الكبابيش أو الهواوير الأفاضل , و هم يقطنون تلك الصحراء يرعون الإبل و الأغنام , و يغالبون الجفاف و قسوة الحياة والطبيعة , و ذلك على وجه الخصوص يعزى لشح المياه و عدم توافـره عندهم إلا من آبار متباعدة جدا و ما تجود به السماء عليهم من مطر خلال فصل الخريف . و التقينا بشيخ وقور , طلب منا فى حماس بالغ أن نقضى الليل ريثما تظهر خيوط الصباح الباكرة , فنتابع رحلتنا و يدلنا على الطريق , و لكننا من ناحية كنا نود السفر فى الليل حيث يعتدل الطقس و تصفو النسائم فى جو معتدل كثيرا , و من ناحية أخرى لم نكن نأمن المبيت عند من لا نعرفهم , خوف داخلي , تقول إيه .... طبيعة بشر تائهيـن فى بطحاء لا أول لها و لا آخر بلغة الأدب و الإنشاء , و لكن طولها لا يتجاوز الثلاثمائة ميلا بلغة الأرقام و الرياضيات , من أم درمان إلى النيل ثانية . و أخذ الشيخ الطيب يحدد لنا معالـم الطريق ووصفه حيث نقترب من بيت العمدة و نتجه غربا مسافة قليلة غربا , عند النقطة التى يمكن أن نجد فيها طريقنا ... ضالتنا المنشودة , بيد أننا رأينا أنه من الأفضل أن يركب معنا الشيخ السيارة , و سرنا بسم الله مجريها و مرسيها , و الحشائش الجافة تحفنا من كل جانب , و لقد جزمت فى نفسى ساعتها , أننا غير منتهين إلى نتيجة أو طريق , فلا شيء على الإطلاق يشير أو يؤكد ذلك , إذ لا أثر لمسير و بعرة لبعير , و لكننا على كل حال نسير , فهل نصل كما يدعى المثل السائر : من سار على الدرب وصل ؟



و بعد مضي زمن ليس باليسير , أبصرنا شبحا على بعد منا فى الظلام , فأوقفنا العربة حيث بدأ الشيخ ينادى : من هناك ؟ و سمعنا عدلان .... أنا عدلان ... تعال يا عدلان .... أجاب الشيخ . و جاء عدلان الفتى القوي المتماسك الأعضاء فى الخامسة و العشرين على ما يبدو من العمر , و شرح له الشيخ الحالة , و طلب منه أن يكون دليلـنا و هاديـنا , على أن يرجع الشيخ أدراجه , راجلا راضيا , ووافق الفتى , و بدأنا بعد أن شيعنا الشيع بالدعوات الطيبة و الشكر و الإجلال , يحدونا أمل كبير فى عدلان و تملأ نفوسنا شهامة و مروءة رجال البادية , تلك الأصالة و تلك القيم التى يقف عندها القلم حائرا و الألفاظ شاردة بليدة , إعزازا و إكبارا و تقديرا .



و لم يطل بنا المسير , ليطلب الفتى أن نتوقف , ليخرج منها و ينظر إلى السماء و النجوم , فهو يعرف السير و الطريق على هديها , و لكنه لا يعرف اتجاهه من داخل العربة المنطلقة فى سرعة و مقاومة لغلظة الطريق . مصيبة ! جئناك يا عبد المعين تعيننا , وجدناك يا عبد المعين تحتاج لما يعينك و من يعينك . و أخذ الفتى ينظر هنا و هناك , و يعدو حينا فى بطن الخلاء و يعود عسى أن يهتدي إلى دليل و لو من الحشائش و الأشجار , فهم على علـم و دراية بها و لكن السيارة أصابته بدوار غريب كما قال , و تنطلق العربة ثم تتوقف , و يعيد الفتى الكرة و المحاولة , إلى أن اقتنعنا أخيرا بضرورة المبيت على الرمال ... يا للهول , و لكن لابد مما ليس منه بد . و بحثنا عن شقيقة نفترشها وسط تلك الرمال المخيفة و التى ربما حوت أفاعى و عقارب ومختلف دواب الأرض , أو حتى شبه شقيقة يمكن الاطمئنان إليها , و بالمناسبة فالشقيقة جمعها شقائق , و هي الأرض الخصبـة وسط الرمال , وردت فى معلقــــة لبيد بن ربيعة , و نبتها يكون مفرهدا جميلا مبهجا , و قد استخدم هذا اللفظ الشاعر السوداني الموهوب المرحوم خليل فرح فى أغنيته المشهورة عند السودانيين ( ما هو عارف قدمه المفارق ) و التى رثى بها نفسه عندما سافر إلى مصر للعلاج ووجد أن حالته ميئوسة , إذ قال فيها :


يا جميل يا نوْر الشقائق





و نور بتسكين الواو و ليست بضم النون كما ينطقها البعض و لكن بفتحها .



و لحسن الحظ , وجدنا يومها واحدة من الشقائق يتناثر على ظهــرها قض و قضيض , و تحفها الحشائش الرملية و الشجيرات المتفرقة من كل جانب . و رأينا أن نصبح هناك . و نام الجميع ليلتها من تعب و إرهاق شديدين , إلا أن واحدا منهم ضالا ـ بتخفيف اللام و تعنى وحيدا ـ ظل لا يغمض لـه جفن , فعامل الغربة و الخوف كان مسيطرا , إلى عامل الهم و التفكير اللذين يلازمانه منذ طفولته .



و فى الصباح الباكر قام الشاب و جرى صوب الغرب قليلا , و عاد مسرعا ليخبرنا أن الطريق على مقربة منا و على بعد خطوات قلائل , و سبحان الله , فإنما كل شيء بقضاء .



أفٍ للعقـــول و التفكـير ! أترى العقـول نعمة على أمثالـه أم نقمة ؟ و قاتل الله الكبرياء , بل التردد و الضعف , فقد ضيع حب هنادى , بعد أن ودع على الرغم منه حب هند فى عهد صباه المبكر , و كان يمكن أن يحظى بها بقليل من الجرأة و الإقدام . لم يستطع مكاشفة هــــنادى بحبه , و إن لمس منها ميلا نحوه فى أكثر من مقام و موضع , و لكنه كان يرهب الواقع الذى عاشه فى حاجة و فاقة , بل يسيطر على تفكير عقله الباطن و يتحكم فى صنع قراره .



و كان لابد أن يخرج بشيء وسط ذلك الخضم المزاحم من التفكير و الأرق و الآراء المتلاطمة ليلتها , آه لو يستطيع أن يكتب قصته ... قصة حياته عله أن يجد من ذلك و فيه سلوى و أن يعوض ما فقده من شجاعة فى مقتبل العمر , بسرد أمين لما كان عليه الحال , مصرحا بما فى داخله و لو بعد فوات الأوان , طال الزمن أم قصر .... زاحمته الحياة أو أفسحت له مجالا .... على كل هو أكثر الناس كرها للكتابة و الجلوس إلى مكتب و قلم و قراطيس , و إن كان يحب أن يقرأ بلا ملل و لا كلل , و لكنه مصمم هذه المرة على الكتابة , و لكن كيف و متى ؟ لا يدرى .... فليترك كل ذلك للصدف و الأيام , و هل حياة المرء إلا سلسلة من المصادفات و العجائب , بقدر و مقدار لا ندرى عنهما, يفرضان علينا واقعا ربما لم يدر فى يوم من الأيام بخلدنا أو أذهاننا !



لابد أن يكتب , فعسى أن تقرأ هنادى له و لو مصادفة ما كتب , و ربما تحس بشيء بين السطور يعنيها , و ذلك يكفيه , فما عاد من أمل و لا فى العمر بقية .



و يبدو أن النوم تسلل أخيرا إلى عيني هشام , و دون أن يشعر , و قد نهض من سريره متأخرا حسب ما تشير عقارب الساعة و ظلال النهار , و لم يبق فى ذهنه من مجمل ليلته غير هدف واحد ينشده , أن يرى كتابه النور يوما ما .



ظل متحمسا للفكرة شهورا عديدة منذ عام 1968 و لكن اختلاف النهار و الليل ينسى كما قال شوقى , و كفـــيل أن تبرد المشاعر بمرور الوقت و انصرام الأيام , رويدا رويدا , و أن تموت حماسته و استعداده قليلا قليلا , وواعجبى ! فالزمن يترك بصماته على كل شيء بلا استثناء , و يغير كل شيء ليصبح مجرد ذكريات يختزنها عقلــنا , نجترها بعض الأحيان بمرارة و حزن أو بشيء من السخرية و التهكم , خصوصا فى ليالى الوحدة و الألم .... ليالى الاغتراب .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الهدف المنشود
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مدارس الاندلس - كوستي :: المكتبة :: الادب العربي (شعر-قصص-حكم-امثال-نثر)-
انتقل الى: